النضج.. رحلة من التكديس إلى التخلي

حين نتأمل التجربة الإنسانية بعمق، نجد أن النضج لا يكمن في تراكم المعرفة أو جمع الخبرات كما يظن الكثيرون، بل في قدرة الإنسان على التحرر مما يثقل كاهله. فالنضج الحقيقي ليس امتلاءً، بل خفة؛ ليس امتلاكًا للمزيد، بل شجاعة التخلي عما لا يخدم الجوهر.

إنها مفارقة يضعنا أمامها الفيلسوف والأديب ليف تولستوي: الإنسان يقضي حياته في الجمع والتكديس، ثم يكتشف في لحظة متأخرة أن ما يعيقه عن التقدّم ليس ما ينقصه، بل ما يحمله من فائض الأشياء. هنا يصبح النضج ضربًا من الزهد، لا زهد العجز، بل زهد القوة؛ أن تكتفي بما يعينك على أن تكون ذاتك الحقيقية.

التخلي، في جوهره، ليس خسارة بل تحرر. إنه أشبه بغصن يطرح أوراقه في الخريف ليتهيأ لربيع جديد، أو نفس تتخفف من ضجيج الأفكار والصور لتبقى على صلة بالجوهر الصافي. في هذا الأفق، يتحول النضج إلى رحلة عكسية: من التملك إلى الكينونة، من الضوضاء إلى الصمت، من التعقيد إلى البساطة.

هكذا يرسم تولستوي صورة إنسان لا يكتمل بإضافة المزيد إليه، بل حين ينتزع عنه كل ما هو زائد. الكمال لا يعني امتلاء الكأس، بل صفاءها، والنضج لا يُقاس بما نكدّس، بل بما نقدر أن نتخلى عنه.

التخليالتكديسالنضجرحلة
Comments (0)
Add Comment