“إزيكي 2025” بذكريات الخامسة و السبعين

تعيش مقاطعة أزيكي خلال الأسابيع الأخيرة حالة عمرانية استثنائية، تفجرت من داخل الأزقة والتجمعات والدروب الفرعية للمقاطعة بطريقة فجائية، وغير متدرجة، ومشحونة بتراكم كثيف للأتربة ومخلفات الأشغال غير المجمعة، الأمر الذي جعل العديد من المتتبعين يعتبرون المشهد العام في المقاطعة أقرب إلى استعادة زمن قديم، وعودة حسية ثقيلة لفضاءات سبعينيات القرن الماضي. فقد صارت العلامات البصرية داخل عدة محاور من ازيكي أشبه بارتداد تاريخي إلى ما قبل عمليات التأهيل الحضري الشامل، وإلى ما قبل مسارات الضبط المؤسسي للمعمار الذي تأسس في ما بعد المسيرة الخضراء. وبالرغم من أن أصل الأشغال يرتبط رسميا بعمليات بنية تحتية وتهيئة ترابية قصد الرفع من جودة الربط، وتوسيع طاقة الضغط العمراني، وربط المساحات الترابية بمواصفات حضرية جديدة، إلا أن أثر التنفيذ في الواقع اليومي على الأرض أنتج وضعية تاريخية مشحونة ومقلقة، وفتحت باب المقارنة الزمنية المفتوحة بين الماضي البعيد والحاضر الراهن؛ وبين حقبة كانت المدينة فيها مؤسسة فوق منطق الضرورة السكنية الأولية، ومرحلة حالية تحمل مقومات مدينة كبرى يفترض فيها أن تمتلك انضباطا في الإيقاع الهندسي والتدبيري.

إن المقاطعة بدت خلال أيام عديدة وكأنها خرجت من الزمن العمراني الراهن، وتحركت في زمن آخر، زمن طبقات الغبار المتراكمة فوق الجدران، وزمن انقطاع الحدود بين الطريق الترابية والممرات السكنية، وزمن الأحياء التي لا تفصل بينها سوى خطوط غير مرئية. ففي عدد من المسارات الداخلية، بدا التحول الأرضي مفاجئا، وقلب الطابع البصري العام، وأنتج سياقا شبه فوضوي، دون أن يقترن هذا التحول بمنظومة مواكبة ميدانية دقيقة في رفع المخلفات بشكل يومي، وبشكل متدرج ينسجم مع منطق الحركة السكانية الداخلية.

ومع أن الأصل البديهي لأي ورش عمراني كبير داخل تجمع سكني بهذا الحجم، يفترض أن يكون مبنيا على تحكم صارم في إيقاع الأشغال، وفي توزيعها، وفي ضبط التراكمات الناتجة عنها، إلا أن ما حدث داخل مقاطعة أزيكي بيّن أن هناك فجوة كبيرة بين طبيعة التصميم التقني المتخيل، وطبيعة الواقع المنفذ على الأرض. فإدارة الأوراش بدت أقرب إلى تركيز على التنفيذ التقني للطبقات الترابية والبلاطات والمجاري، دون هندسة تأطير محيطية لحماية المجال المباشر لحياة الناس اليومية. وهذا بالضبط ما أنتج مفارقة تاريخية في الإدراك: إذ تحولت الإقامة داخل الأزقة المتضررة إلى إقامة في ذاكرة زمن مضى، زمن كانت فيه المدينة غير مكتملة، غير مضبوطة، غير منظمة، ولا مؤسسة على معيار تخطيط شامل.

ولم يكن هذا التحول مجرد تصور انطباعي أو مبالغة صحفية. بل هو تحول استند إلى كثافة مادية ملموسة فوق الأرض نفسها. فالمواطن الذي يتحرك يوميا داخل المقاطعة، والذي يخرج من منزله في الصباح إلى عمله، أصبح يتحرك داخل بيئة مثقلة بالغبار، وفي كثير من الأحيان يجد نفسه داخل فراغات عمرانية غير مكتملة، وفي مسارات لا يميز فيها بشكل تلقائي بين الطريق المؤقتة والطريق القابلة للاستخدام النهائي. وهذا ما جعل المقارنة الرمزية مع حقبة سبعينيات القرن الماضي مقارنة تلقائية، لا تحتاج إلى تدخل بلاغي أو تأويل أدبي. فالمشهد نفسه صار كفيلا بصناعة الاستدعاء التاريخي وحده، وبشكل مباشر.

لكن هذا الوضع لا يطرح فقط سؤال الماضي المستعاد؛ بل يطرح أيضا سؤال الحاضر المفكك. ذلك أن المقاطعة في زمنها الراهن، وفي ازقتها، لم تعد قابلة للتعامل بمنطق الورش الترابي المفتوح، دون أن يكون ذلك مقرونا بتدبير يومي للمخرجات والآثار الجانبية. فقد أصبحت جودة الحياة داخل المجال الحضري موضوعا معياريا وليس موضوعا ثانويا. وأصبحت حركة التنقل، والمدرسة، والعمل، والمرفق التجاري، والنظام العام اليومي، كلها عناصر مترابطة لا يمكن التعامل مع أي ورش عمراني بمعزل عن أثره فيها. فالزمن الذي كانت فيه الأشغال أفقا مفتوحا غير مشروط بالانسجام مع الحياة اليومية قد انتهى عمليا، لأن المدينة لا تعود مساحة عمرانية محضة، بل تصبح مجالا اجتماعيا وسياسيا ونفسيا، يخضع لأثر كل تفصيل، مهما كان صغيرا.

وانطلاقا من هذا المعطى، فإن ما يجري داخل ازيكي اليوم يفتح السؤال المنهجي: هل كانت هناك خطة جدولة زمنية متينة ومُحكَمة ترافق هذه الأوراش؟ وهل كانت هناك هندسة إدارة مخاطر مسبقة تأخذ بعين الاعتبار ردود الفعل الاجتماعية، والضغط النفسي والبيئي المحتمل على الساكنة، وعلى حياتها اليومية؟ وهل كانت هناك استراتيجية تواصل ميداني تجعل السكان داخل العملية، لا خارجها، وتجعلهم طرفا مشاركا، وليس مجرد متلق سلبي لنتائج غير محسوبة؟ أم أن الأمر تم تنزيله عبر منطق التنفيذ التقني المحض، دون رؤية مصاحبة؟

هذه الأسئلة تصبح ضرورية، ليس بهدف صناعة خصومة رمزية، ولكن بهدف فهم ما وقع، وقراءة الطريقة التي تم بها تنزيل الأشغال. فالمشهد الحالي في المقاطعة يفتح بابا واسعا على مفهوم التخطيط الترابي كمنظومة قيم ومعايير قبل أن يكون منظومة إجراءات تقنية. لأن التخطيط ليس هو البناء فقط، وليس هو الحفر، وليس هو تحويل مجرى أو ردم مجرى آخر؛ بل هو أيضا القدرة على حماية البنية الاجتماعية خلال الأشغال، وضمان انسياب الزمن الحضري دون انقطاع، وضمان عدم تحويل السكان إلى متضررين ظرفيين خلال مرحلة الأشغال.

ومن هنا، يمكن القول بأن مقاطعة ازيكي قدمت خلال هذه الفترة نموذجا واقعيا دالا على أهمية الانتقال من منطق “إنجاز الأشغال” إلى منطق “إدارة الأشغال”. فالفرق بينهما كبير. إنجاز الأشغال يعني التنفيذ الهندسي التقني، وهو جزء واحد من العملية. أما إدارة الأشغال فتعني القدرة على حماية الإيقاع اليومي للحياة المشتركة داخل مجال عمراني مأهول. وهذه الإدارة تتطلب أدوات استباقية وأدوات تدخلية، وتحتاج إلى تصورات موازية لمفهوم جودة الحياة. ولأن المقاطعة لم تحظ بحماية تفاصيل هذه الإدارة بشكل كاف، فقد ظهرت النتيجة على شكل مشهد تاريخي يعود بالمدينة خمسين سنة إلى الوراء.

ومع أن هذه الوضعية قد تبدو آنية، وتحمل طابع المرحلة العابرة، إلا أن أثرها الإدراكي والرمزي سيبقى في ذاكرة الساكنة لوقت طويل، لأنها أعادت ربط الحاضر بماضٍ ظن الجميع أنه انتهى دون رجعة. ومن هنا تأتي القيمة التحليلية لفهم ما وقع: ليس بهدف تقييد العملية، ولكن بهدف إدراج عنصر الزمن الاجتماعي داخل هندسة القرار الترابي. فالمجالات الحضرية الحديثة لا تعود قابلة للتحمل التقليدي للأوراش غير المؤطرة. وهذه الدرسة يجب أن تتحول إلى قاعدة عامة تتجاوز أزيكي، لتشمل كل مقاطعات المدينة، لأن التوسع الحضري سيظل مستمرا، والأوراش ستتكرر، والضغط السكاني لن ينخفض.

وفي النهاية، يمكن القول إن ما حدث داخل مقاطعة ازيكي هو لحظة اختبار حقيقية لمدى قدرة الإدارة الترابية المحلية على صناعة توازن بين البناء وبين حماية الزمن الاجتماعي. وأن هذه اللحظة ستبقى مرجعية قابلة للقياس، لأنها كشفت عن أن المشهد العمراني ليس مجرد منتوج هندسي، ولكنه أيضا حامل للذاكرة، وللرمز، وللتمثلات. ولذلك فإن قراءة ما جرى ليست فقط قراءة لوضع مؤقت، بل هي أيضا قراءة للمستقبل الذي ينبغي أن لا يعود فيه أي ورش عمراني سببا في صناعة تراجع حضري مرئي أو محسوس داخل المدينة.

الحاضرة المتجددةدواي تيفيمقاطعة ازيكي
Comments (0)
Add Comment