في زمن تتسارع فيه مشاغل الحياة، وتغيب فيه أحيانًا القيم الإنسانية الرفيعة، يبقى بر الوالدين من أعظم الواجبات التي أكد عليها الإسلام، بل جعله مرتبطًا بتوحيد الله سبحانه وتعالى. فالقرآن الكريم يكرر هذا الاقتران في مواضع عدة، حيث يقول الله عز وجل: “وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُواْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا” (الإسراء: 23).
لم يكن هذا التكرار عبثًا، بل هو تأكيد على مكانة الوالدين وضرورة الإحسان إليهما. فكما أن التوحيد هو أعظم حقوق الله، فإن البر هو أعظم حقوق العباد، وهو من أسباب رضا الله وسعة الرزق وطول العمر. وقد ورد عن النبي ﷺ أنه عندما سُئل عن أحب الأعمال إلى الله قال: “الصلاة على وقتها”، قيل: ثم أي؟ قال: “بر الوالدين”، قيل: ثم أي؟ قال: “الجهاد في سبيل الله” (رواه البخاري ومسلم).
لكن ماذا لو كان الوالدان سببًا في دعوة الأبناء إلى الشرك؟ هل يسقط حقهما في البر؟ هنا تتجلى عظمة الدين الإسلامي، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: “وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَا وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗا” (لقمان: 15). فرغم أن الشرك من أكبر الكبائر، إلا أن الله يأمر بعدم طاعتهما فيه، ولكنه في الوقت ذاته يوصي بالإحسان إليهما ومعاشرتهما بالمعروف، وهذه قمة العدل والرحمة في التشريع الإسلامي.
من أعظم المصائب أن يرحل الوالدان عن الدنيا دون أن يكون الابن قد أدى حقهما كما ينبغي. كم من شخص يندم بعد رحيل والديه، ويتمنى لو عاد الزمن ليقبّل أيديهما، ويقضي حوائجهما، ويشاركهما تفاصيل الحياة الصغيرة؟ لكن هيهات! فاليوم الذي يمرّ لن يعود، ولن تبقى سوى الحسرات والدعوات في ظهر الغيب.
إذا كنت من الذين لا يزال والداهم على قيد الحياة، فاعلم أنك في نعمة عظيمة. اغتنم وجودهما، فهما بابان مفتوحان إلى الجنة. لا تدخر جهدًا في إسعادهما، ولا تترك الكلمات الجميلة والحب الصادق حتى فوات الأوان.
وأخيرًا، لنتذكر جميعًا قول النبي ﷺ: “رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة” (رواه مسلم). فليكن برّ الوالدين شعار حياتنا، ولنغتنم وجودهما، قبل أن نتحسر على فقدهما!