حلقة أولى من سلسلة بعنوان مقدمة في نقد العدم بقلم ذ. نور الدين حنيف
رشيدة باب الزين باريس
تجتاحنا في مراقدنا و في أعقار دورنا كتاباتٌ تمدح العدم و تمجد الفراغ الروحي على اعتبار أنها كتاباتٌ حداثية تقطع مع التراث ، و تفتح شهية الإنسان على مقولات الحرية و الانعتاق من كل قيد عُلوي أو ربّاني أو لدُني تنشدُّ خيوطُهُ و لو بصيصاً إلى أنوار الغيب . مدّعيةً أن الإنسان صانع قراره و مصيره على اعتبار أنه نتيجة حتمية للصدفة و الطبيعة و ما جرى مجرى ذلك من آلهة وهمية تُنيخ عند أقدامها تصورات كبار فلاسفتهم و مفكريهم و الذائدين عن معابدهم الجديدة الحاملة لكل اشكال التناقضات الداخلية التي تنهش بنيانها قبل أن يُسلَّطَ عليها قلمٌ مسؤول و مستقل و موضوعي .
و قد نجد لهؤلاء عذرا في تبنّيهم هذا النزوع المادّي في قراءة الوجود ، و في تفسيرهم العدمي للكينونة الإنسانية بحكم شروط إنتاج هذه المقولات عبر تاريخهم القريب و الذي عرف دمويةً غير مشهودة صنعتْ مثل هذا الإنسان و حوّلت مجرى الدمع عنده من قراءة الواقع و المستقبل داخل سياقاتٍ سويّةٍ إلى قراءتهما داخل سياقاتٍ مرضية جنحت بالمتون إلى عبثية ساخطة و إلى سخط عبثي غير مشروط … فانطلق حبلهم على غاربه و أنتج ما أنتجه في ساحاتهم الثقافية من صرخات مادية و عدمية تمجّدُ الخواء و الحرية المزعومة … و لكننا لا نجد عذرا للذين يتكلمون هنا في ديارنا الإسلامية بنفس اللسان و هم الناسخون و الناقلون و المقلدون من خلف ، و في توجّهٍ لا أثر فيع للعلمية أو الموضوعية ، إنْ هي إلا نزعة تابعة يبنيها الانبهار بالآخر و تؤسسها الدهشة بالمختلف ، دون وعيٍ بسياق و شروط إنتاج هذه المعرفة إن جاز و سمّيناها معرفة . و دون تمحيص لها و وضعها في محك الميزان النقدي العلمي .
و هم و غيرهم من معلميهم يدّعون أن كتاباتهم هي أول صيحة في تاريخ الصراخ قلبت ظهر المجن على التبعية و التراث و التقليد ، و انقلبت على الثوابت و الدوغمائيات و المسلّمات . بل حتى على المقدّسات … و لو قرؤوا نزرا يسيرا من تاريخنا الإسلامي لما قالوا مقالاتهم و لما ادّعوا خطلَ قراءاتهم ، و لأدركوا سبق الإسلام إلى أساس حرية الإنسان و استقلالية فكره و سواءِ عقله … لنستمع إلى حكمة الكتاب المتين و الذكر الحكيم في قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) سورة البقرة الآية 170
و في قوله أيضا ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ ) سورة لقمان الآية 21
و كم هي واضحة للعيان قبل الجنان دعوة القرآن الكريم إلى نفض الماضويات المثبّطة و الكسولة و القاعدة بالإرادة مقاعد العجز عن تمثل حقيقة الوجود في علاقته بخالق الوجود . و الآيتان و غيرهما في القرآن تمجّان التقليد و التبعية الخاوية من كل نظر ، و تربآن بالإنسان أن يكون معيةً تابعا دون رشدٍ منه و عقل . و هما و غيرهما كثير من هذا الذكر الحكيم سبقتا الزمان في تأكيد حرية الإنسان في مفهومها السويّ القاضي بالحركة داخل منظومة ربانية لا داخل عبثية فردية مشحونة بفلسفة ردّ الفعل ضد تغوّل الأزمنة على الإنسان . و شتّان بين حركية مدعومة من السماء و بين حركية يبنيها الخواء ..
الحلقة من مشروع كتاب جاهز للنشر بعنوان ( مقدمة في نقد العدم ) إن شاء الله
ذ. نور الدين حنيف.