شغيلة “الكنوبس”.. كرامة معلقة بين خطاب الإصلاح وواقع التجاهل
دواي تيفي ☆دلال رحيلي☆_مراكش_
في الوقت الذي يرفع فيه المغرب شعار العدالة وحقوق الإنسان، ويفاخر بانخراطه في أهم الاتفاقيات الدولية الرامية إلى صون كرامة الإنسان وضمان حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، يبرز سؤال جوهري لا يحتمل التجاهل:
إلى أي حد تُترجم هذه الالتزامات إلى واقع ملموس يحمي كرامة الشغيلة المغربية؟
تُمثل قضية شغيلة “الكنوبس” أحد أبرز الأمثلة على التناقض البنيوي بين الالتزامات النظرية للدولة والممارسة العملية. فهذه الفئة، التي يُفترض أن تكون العمود الفقري للعدالة الصحية، تواجه اليوم تحديات جوهرية تمس كرامتها المهنية وقدرتها على أداء دورها الحيوي داخل المؤسسة نفسها.
من منظور الحوكمة العادلة، تُقاس فعالية الدولة بمدى احترامها لكرامة العاملين وحقوقهم الأساسية، لا بحجم الناتج الخام أو عدد الموارد. فالمجتمع الذي يُهين شغيلته يهدم أسس العدالة الاجتماعية، ويحوّل المؤسسات من فضاءات للخدمة إلى مصانع للظلم الصامت، حيث يصبح الإهمال الإداري أداة لتضييق الحقوق.
قضية شغيلة “الكنوبس” ليست مجرد بند في محضر إصلاح أو رقم في ميزانية، بل اختبار أخلاقي لمدى جدية الدولة في حماية حقوق الإنسان العامل.
أكدت المواثيق الدولية، وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، أن العمل ليس سلعة، بل حق من حقوق الكرامة الإنسانية. كما شددت اتفاقيات العمل الدولية – ولا سيما الاتفاقيات رقم 87 و98 و151 – على حرية التنظيم النقابي وضمان العدالة في الأجور والأمان المهني والمشاركة في القرار الإداري.
ورغم ذلك، لم تصادق الدولة المغربية بعد على الاتفاقية رقم 87، مما يحد من حرية التنظيم النقابي الفعلي.
وعلى الصعيد الوطني، أقرت المبادئ الدستورية والقانونية حقوق الكرامة للعامل الاجتماعي، إلا أن الانتقال من النصوص إلى التطبيق ما زال يعاني من فجوات بنيوية عميقة. والسؤال الذي يفرض نفسه: ما موقع شغيلة الكنوبس من كل ما سبق؟
في ظل مشروع قانون 54.23 المتعلق بإعادة هيكلة التأمين الإجباري عن المرض، يبرز أن القرار لا يقتصر على البنية الإدارية، بل هو اختبار حقيقي لكرامة العاملين.
فبينما يُطلب من الشغيلة الأداء والمثابرة، تتخذ في حقهم قرارات تُغيّر مسارهم المهني دون إشراكهم أو استشارتهم.
يتحدث الجميع عن الاندماج ونقل الأصول والموارد، لكن أين هو النقاش حول المكتسبات الوظيفية لشغيلة الكنوبس؟
لا نص قانونيًا واضحًا يضمن استمرار شروط العمل أو يحدد آليات الحماية للمرحلة الانتقالية، مما يُظهر ثغرة قانونية خطيرة تمس الاستقرار المهني لهذه الفئة.
جملة من الشعارات الرنانة تتنافى كليًا مع الواقع الذي تعيشه شغيلة مُنتهكة الكرامة بين مطرقة العجز الإداري وسندان القرار السياسي.
مؤسسة وُلدت لتكون حصن الأمان الصحي للموظفين والمتقاعدين، تحوّلت اليوم إلى عنوان للارتباك والخذلان، تُدار بعقلية المقاولة المتعبة، ويتقاذفها العجز المالي والقرارات السياسية التي لا ترى في المواطن سوى رقم في دفتر الحسابات.
من العار أن يُخاض إصلاحٌ يُقدَّم ثمنه بتسريح أطر أفنت عمرها في خدمة النظام الصحي العمومي، والتفاخر بتوحيدٍ إداري يحمل في طيّاته إلغاء مؤسسة كاملة دون خطة واضحة لحماية مواردها البشرية.
الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من فوق المكاتب، بل بالاعتراف بمن يقفون خلفها.
ولا يمكن تحقيق عدالة صحية في وطن لا يُنصف من يعمل داخل جدران العدالة الاجتماعية نفسها.
لقد آن الأوان لفتح ملف شغيلة الكنوبس بشجاعة وصدق، لأن بدونهم لن تبقى المؤسسة سوى لافتة إدارية فوق جدران فارغة.
