من “كون الفئران” إلى “غثيان سارتر”.. هل يقودنا فائض المعنى إلى العدم؟
في زمن ما بعد الحداثة، لم يعد العالم يتحرك على إيقاع خطيّ كما تصوره هيغل، بل غرق في سيولةٍ بلا مركز، حيث تتوالد الفروق وتنهار السرديات الكبرى التي بشّر ليوتار بانتهائها. الكلمات نفسها لم تعد تحيل إلى معانٍ ثابتة، بل إلى سلسلة لا متناهية من الغيابات.
في خضم هذا المشهد، برزت شخصية افتراضية – “كاوسيا” – كرمز مولود من رحم الفوضى الفكرية. ليست مجرد اسم، بل صرخة وجودية تبحث عن “النقص البدئي”، عن ذلك الفراغ الذي لم تملأه وفرة الخطابات ولا فائض التعددية. لقد صار الغثيان الوجودي، الذي صاغه جان بول سارتر في روايته الشهيرة عام 1938، أكثر من مجرد حالة نفسية؛ أصبح مادة لاصقة في مسام الروح، وتجسيدًا مرعبًا لغياب الجوهر.
حين كان سارتر يكتب “الغثيان”، كان يصف اللزوجة التي تشلّ الوعي وتكشف عبث الوجود. لكن النص، بعد عقود، تحوّل إلى “أبورية كونية” تعيد فتح أسئلة المعنى. بالنسبة لـ”كاوسيا”، لم يكن التحليل الأكاديمي للنص كافيًا؛ بل حدث “انشطار” حقيقي في نسيج الواقع الرمزي، فجوة أنطولوجية أسقطته – أو أسقطتنا – في لحظة الصفر، حيث يتعرى الوجود من أي محاولة لترميزه.
المفارقة أن العبث الذي كشفه سارتر، والذي كان يُفترض أن يحرر الإنسان من الأوهام، تحوّل مع الزمن إلى ميتاسردية جديدة، إلى “قصة مأساوية ابتلعت ذيلها”. فكما قادت وفرة الموارد مجتمع “الكون 25” من الفئران إلى الانهيار والانقراض، قد يقود فائض المعنى أو غيابه الإنسان إلى غثيان دائم، وإلى انتحارٍ معرفيٍّ بطيء.
هل نحن اليوم أمام “غثيان جماعي” في عالم رقمي فقد بوصلته؟
هل الوفرة الفكرية، مثل الوفرة المادية، تُخفي وراءها فراغًا أصيلاً يقود إلى السقوط؟أم أن الإنسان قادر على إعادة اختراع معنى جديد يتجاوز العبث؟
