ديستوفسكي.. حين علّمنا أن الحب لا يُكتشف إلا على حافة الرحيل

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

في زحمة الأيام، نعيش ونحن نؤجل كل شيء جميل: كلمة “أحبك”، نظرة امتنان، أو حتى عناق بسيط. نؤجلها بحجة الغد، وكأن الغد وعدٌ لا يخلف. لكن الحقيقة التي تفضحها اللحظات القاسية — في المستشفيات والمقابر — هي أننا لا ندرك قيمة الحب إلا حين يصبح متأخراً، حين يوشك الزمن على الانتهاء.

حين كتب فيودور ديستوفسكي عبارته الشهيرة عن الحب والفقد، لم يكن يصف مشهداً عاطفياً عابراً، بل كان يغوص في عمق المأساة الإنسانية التي تجعل الحب يبلغ قمته عند تخوم الرحيل. ففي لحظات الوداع، يسقط القناع الذي نرتديه طيلة الحياة؛ قناع القوة، الغرور، والسيطرة. هناك، في مواجهة الموت، تنكشف هشاشة الإنسان، ويتجلى الحب في أنقى صوره: حب بلا مصلحة، بلا أفق طويل، بلا شروط… دفقة صادقة من الروح إلى الروح.

في الحياة اليومية، نُرهق أنفسنا بتفاصيل العمل، بالمظاهر، وبالاعتياد على من نحب حتى يبهت وجودهم في أعيننا. نغفل أن الزمن لا ينتظر، وأن وجهاً مألوفاً اليوم قد يغيب غداً إلى الأبد. وحدها لحظات الخوف أو المرض أو الفقد تجعلنا نرى بوضوح ما غاب عنا في الازدحام: أن الكلمة الطيبة أغلى من كل الصمت، وأن اللمسة قد توازي عمراً كاملاً.

يقول الأدباء إن إدراك القيمة لا يكون كاملاً إلا في حضرة النقيض؛ فلا نعرف معنى الضوء إلا حين نغرق في الظلمة، ولا نذوق طعم الحرية إلا بعد الأسر، ولا ندرك الحب إلا حين نخاف أن نفقده. نحن كائنات يُعلمها الغياب أكثر مما تُعلمها الوفرة، ويهذبها الفقد أكثر مما يربيها الامتلاك.

إنها دعوة مفتوحة لنا جميعاً — كما أراد ديستوفسكي — لأن نحب بصدق الآن، لا حين نصل متأخرين إلى أبواب الوداع. فالحكمة الحقيقية ليست أن نرثي ما ضاع، بل أن ندرك قيمة ما بين أيدينا قبل أن يصبح مجرد ذكرى في مقبرة الوقت.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.